بقلم: مبارك الحسناوي

المقام الشريف

إن زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسباب الموصلة إلى حبه صلى الله عليه وسلم الجالبة لشفاعته صلى الله عليه وسلم، فإن زيارته صلى الله عليه وسلّم من أهم القربات وأربح المساعي وأفضل الطلبات[1].

كثيرة هي الكتابات حول الحج وفضائله وأركانه وما ينبغي للحاج أن يقوم به في حجه وما لا ينبغي له، وكثيرة هي الكتالبات حول المدينة النبوية الشريفة وفضائلها، لكن قليلة هي تلك الكتابات حول زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وفضائلها وآدابها. وهذا ما سأبسطه في هذا المقال متوكلا فيه على الله سبحانه وتعالى ومستئذنا فيه حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم سائلا المولى جلّت قدرته أن يشفّعه فينا.

النصوص الواردة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم

من القرآن الكريم

– يقول الحق سبحانه وتعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما [2].

فالشاهد هنا هو قوله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما الآية، يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم، ولهذا قال: لوجدوا الله توابا رحيما . وقد ذكر جماعة منهم أبو منصور الصبّاغ في كتابه “الشامل” الحكاية المشهورة عن العتبي، قال:” كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول” :

  يــا خير من دفـنت بالقـاع أعظمه              فطاب من طيبهن القاع والأكم

نـفـســي الفداء لقبر أنت سـاكـنه              فـيه العفاف وفـيه الجـود والكرم

      “ثم انصرف الأعرابي، فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلّم في النوم، فقال: يا عتبي، الحق الأعرابي فبشّره أن الله قد غفر له” [3].

من السنة النبوية العطرة

أكثر من أن تعد أو تحصى نكتفي ببعضها إظهارا للمقصود وبيانا للمراد.

الحديث الأول:

ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: “ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة” [4].

قال ابن حجر رحمه الله: المراد بالبيت في قوله بيتي أحد بيوته لا كلّها وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ “ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة” [5].

قوله: (روضة من رياض الجنة) أي كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة ووصول السعادة بما يتحصل من ملازمة حلق الذكر لاسيّما في عهده صلى الله عليه وسلّم فيكون تشبيها بغير أداة، أو المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة فيكون مجازا أو هو على ظاهره وأن المراد أنّه روضة حقيقة بأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة الى الجنّة[6].

الحديث الثاني:

ما رواه أحمد رضي الله عنه بسند صحيح أن البي صلى الله عليه وسلّم لمّا خرج يودّع معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: “يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلّك أن تمر بمسجدي هذا وقبري” ، فكلمة (لعلّ) تأتي في أعمّ الأحوال للرجاء، وإذا دخلت (أن) على خبرها تمخّضت للعرض والرجاء. فالجملة تنطوي بصريح البيان على توصية معاذ بأن يعرج عند رجوعه إلى المدينة على مسجده صلى الله عليه وسلّم وقبره ليسلّم عليه[7].

الحديث الثالث:

قوله صلى الله عليه وسلّم “من جائني زائرا لا يهمه إلا زيارتي كان حقا على الله سبحانه وتعالى أن أن أكون له شفيعا يوم القيامة” [8] والزيارة عامة في الحياة وبعد لقاء الله والمخالف عليه بدليل التخصيص كما يقول أهل الأصول.

إضافة إلى هذه الأدلة وغيرها فإن الإجماع منعقد على مشروعية زيارة القبور عموما واستحبابها، ومعلوم أن قبره صلى الله عليه وسلّم داخل في عموم القبور فيسري عليه حكمها، وقد ثبت في كتب السير زيارة كثير من الصحابة قبره صلى الله عليه وسلّم، منهم بلال رضي الله عنه رواه ابن عساكر بإسناد جيّد وابن عمر فيما رواه مالك في الموطأ وأبو أيوب فيما رواه أحمد، دون أن يؤثر عنهم أو عن أي أحد منهم أي استنكار أو نقد لذلك.

فضل زيارة المقام الشريف

باستقراء النصوص السابقة تتبيّن فضائل زيارة المقام النبوي الشريف وهي كثيرة نذكر منها:

* مغفرة الذنوب وقبول التوبة والاغتراف من رحمة الله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما .

* نيل شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من أعزّ ما يطلب: “من جاءني زائرا لا يهمه إلا زيارتي كان حقا على الله سبحانه وتعالى أن أن أكون له شفيعا يوم القيامة” .

* تقوية الصلة بالله تعالى لأن زيارة المقام من أعظم القربات لله: “وما يزال عبدي يتقرّب إلى بالنوافل حتى أحبه” . الحديث.

* استحقاق محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

آداب زيارة المقام النبوي الشريف

واعلم أن لزيارة قبره صلى الله عليه وسلّم آدابا لا بد من اتباعها، فإن أكرمك الله تعالى بالتوجه الى زيارته، فاعقد العزم أولا على زيارة مسجده صلى الله عليه وسلّم ثم انو مع ذلك زيارة قبره الشريف. ثم اغتسل قبيل دخولك المدينة. والبس أنظف ثيابك. واستحضر في قلبك شرف المدينة وأنك في البقعة التي شرّفها الله بخير الخلائق. فإذا دخلت المسجد فاقصد الروضة الكريمة، وصل ركعتي تحية المسجد ما بين القبر والمنبر. وسلم على النبي العدنان “السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا خيرة الله من خلقه، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا سيّد المرسلين وخاتم النّبيّين، السلام عليك وعلى آلك وأصحابك وأهل بيتك وعلى النّبيّين وسائر الصالحين، أشهد أنك بلّغت الرسالة وأدّيت الأمانة، ونصحت الأمة فجزاك الله عنّا أفضل ما جزى رسولا عن أمته” [9]. ثم سلم على صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

دفعت الأشواق أهل الأذواق عبر الآفاق ضربا بالسوق والأعناق وحملا على النوق، فأنشدوا قصائد تعبق بروائح المحبة والأنوار، المنبعثة من مقام سيّد الأبرار، فكان الأصحاب أوّل من دبّت الأشواق بين أضلعهم. فهذا حسان بن ثابت رضي الله عنه يقف على القبر دامعا خاشعا متوجعا لفقد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:

  • أطالت وقوفا تذرف العين جهدها *** على طلل القبر الذي فيه أحمد
  • فبوركت يا قبر الرسول و بوركت *** بلاد ثوى فيها الرشيد المسدّد
  • و بورك لحدُ ُ منك ضمّن طيّبا *** عليه بناء من صفيح  منضّد
  • تهيل عليه الترب أيد و أعين *** عليه و قد غارت بذلك أسعد [10]
  • لقد غيّبوا حلما و علما و رحمة *** عشيّة علوه الثرى ، لا يوسّد
  • و راحوا بحزن ليس فيهم نبيّهم *** و قد وهنت منهم ظهور و أعضد [11]

 

وهزّت الأشواق عبر الأزمان المشتاقين ما بين المشرق والمغرب، فهذا مالك بن المرحل – 604/699 – تهزّه الأشواق هزّا وتدفعه للقيا الحبيب الممجد:

  • شوق كما رفعت نار على علم *** تشبّ بين فروع الضال و السلم [12]
  • ألفّه بضلوعي و هو يحرقها *** حتى براني بريا ليس بالقلم
  • من يشتريني بالبشرى و يملكني *** عبدا إذا نظرت عيني إلى الحرم
  • دع للحبيب ذمامي[13] و احتمل رمقي *** فليس ذا قُدم[14] من ليس ذا قدم
  • يا أهل طيبة طاب العيش عندكم *** جاورتم خير مبعوث إلى الأمم
  • عاينتم جنّة الفردوس عن كثب *** في مهبط الوحي و الآيات و الحكم
  • لنتركن بها الأوطان خالية *** و لنسلكنّ لها البيداء في الظلم
  • ركابنا تحمل الأوزار مثقلة *** إلى محطّ خطايا العرب و العجم
  • ذنوبنا يا رسول الله قد كثرت *** و قد أتيناك فاستغفر لمجترَم
  • ذنب يليه على تكراره ندم *** فقد مضى العمر في ذنب و في ندم
  • نبكي فتشغلنا الدنيا فتضحكنا *** و لو صدقنا البكا شبنا دما بدم
  • يا ركب مصر رويدا يلتحق بكم *** قوم مغاربة لحم على وضم[15]
  • فيهم عبيد تسوق العيس زفرته *** لم يلق مولاه قد ناداه النسم [16]
  • يبغي إليه شفيعا لا نظير له *** في الفضل و المجد و العلياء و الكرم
  • ذاك الحبيب الذي ترجى شفاعته *** محمد خير خلق الله كلّهم
  • صلى عليك إله الخلق ما طلعت *** شمس و ما رفعت نار على علم[17]

[11]

ويقف القاضي عياض ذو المكانة السامقة العالم والأديب والقاضي الذي قيل فيه: “لولا القاضي عيّاض لم يعرف المغرب” يقف على مشارف المدينة فرحا بلقيا الحبيب مستبشرا برؤيته:

  • قف بالركاب فهذا الربع و الدار *** لاحت علينا من الأحباب أنوار
  • بشراك بشراك قد لاحت قبابهم *** فانزل فقد نلت ما تهوى و تختار
  • هذا المحصب هذا الخيف خيف منى *** هذي منازلهم هذي هي الدار
  • هذي قباب قبى آثار وطئهم  *** وذا هو الجزع فابك ذا هو الغار
  • هذا النبي الحجازي الذي شهدت *** له بتقديمه رسل و أحبار
  • هذا الحبيب الذي أسرى لخالقه ***  ليلا و قد ضربت بالليل أستار
  • هذا الرسول الذي من أجله شهدت *** لنا على غيرنا فضل و آثار
  • هذا الشريف الذي سادت به مُضر *** هذا الذي تربه كالمسك معطار
  • هذا الشفيع الذي ترجى شفاعته *** للمذنبين إذا ما اسودت النار
  • بادر و سلم على أنوار روضته*** قبل الممات فلا تشغلك أعذار
  • إن لم تعين ثراه العين يا أسفي *** أو لم تزره فإن الشوق زوار
  • يا أهل طيبة حل ربعكم قمر *** برُّ عطوف لفعل الخير أمّار
  • يا خيرة الرسل ، يا أعلى الورى شرفا *** قد أثقلت ظهري آثام و أوزار
  • و أشغلتني ذنوب عنك مؤلمة *** أخاف تحرقني من أجلها النار
  • فكن شفيعي لما قدّمت من زلل *** و من خطايا ، فإن الرب غفّار
  • صلى عليه إله العرش ما سجعت *** ورق و ما نفحت في الروض أزهار
  • و آله و على أصحابه السعدا *** ما لاح نجم و ما تنهل أمطار [18]

 

ولم يكن البوصيري رحمه الله تعالى بالشاذ عن القوم المشتاقين، فأحسن التصوير والتعبير عن خوالج النفس المتيّمة بحب المصطفى ووقوفها بين يديه فقال في همزيته المشهورة:

فحططنا الرحال حيث يُحَط ال *** ـوزر عنا و ترفع الحوباء

و قرأنا السلام أكرم خلق الـــــــــــــــله من حيث يسمع الإقراء

و ذهلنا عند اللقاء و كم أذ             هل صبا من الحبيب لقاء

و وجمنا من المهابة حتى             لا كلام منا و لا إيماء

و رجعنا و للقلوب إلتفاتا              ت إليه و للجسوم انثناء

و سمحنا بما نحب و قد يس          مح عند الضرورة البخلاء

ولا تنسى يا أخي أن تبلغ الرسول الأكرم مني السلام – أمانة في عنقك – قل له : يبلغك السلام عبد من عباد الله حفيد من أحفادك سبقه إليك الشوق و حبسته عنك أعذار أقسم على الله أن يقف بين يديك – إن أطال الله همره- مستغفرا الله و مستغفرا بك لله  هو مبارك الحسناوي الهزيلي الإدريسي غفر الله له ولآبائه وسائر المسلمين.

 

 

الأذكار للإمام  البنووي “فصل في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم[1]

الآية 64 سورة النساء [2]

تفسير ابن كثير  ج1 [3]

رواه البخاري كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة  باب فضل ما بين القبر والمنبر ومسلم في كتاب الحج  باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة  [4]

فتح الباري بشرح صحيح البخاري كتاب فضائل المدينة باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلّم أن تعرى المدينة [5]

فقه السيرة النبوية للدكتور محمدسعيد رمضان البوطي حفظه الله ط 11 [6]

رواه الطبراني ( الحديث 12/291) والزبيدي  (الحديث 4/416)[7]

فقه السيرة محمد سعيد رمضان البوطي [8]

الأدكار للإمام النووي ” فصل في زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلّم “[9]

[10]   غارت أسعد : غابت النجوم

[11]  شرح ديوان حسّان بن ثابت ، جمانة يحيى الكعكي ص 52-53  ط 1 – 2003دار الفكر العربي بيروت

[12]  الضال و السلم :الماء الجاري بين الصخور أصابته الشمس أم لم تصبه

[13]  حرمتي

[14]  شجاعة

[15]  الوضم : ما وقيت به اللحم من الأرض من خشب أو حصير

[16]  السمُ : الطريق الدارس

[17]  مصدر القصيدة ” الإحاطة في أخبار غرناطة ” لسان الدين بن الخطيب تحقيق محمد عبد الله عنان ن مكتبة الخانجي بالقاهرة ، ط 1 -1975 ج3 ص 314-315

[18]  القصيدة من مخطوطة بالخزانة العامة للرباط في مجموع من ورق 166 – 168 رقم 774